كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومثال ذلك ما حدث في الإسكندرية عندما ظهر مدع للنبوة. وأباح منكرًا مثيرًا، وتبعه بعض من المتعلمين الذين أرادوا دينا على هواهم، وكذلك كان الأمر في البداية. وعندما جاء ذو الخمار، أو ذو الحمار، وهو كما قلنا: مشعوذ، وكان كما يصفه المؤرخون يسبي قلوب من يسمع منطقه وكان يريهم الأعاجيب، واستطاع بذلك أن يستولي على مُلْك اليمن، وأعلن ارتداده. وغلب على صنعاء وعلى ما بين الطائف إلى البحرين. وجعل يستطير شره استطارة الحريق.
وكان سيدنا معاذ بن جبل هو الوالي على اليمن من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر سيدنا معاذ بن جبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن كاهنًا اسمه ذو الخمار أو ذو الحمار، قد ارتد.
ويذهب سيدنا معاذ إلى حضرموت. وهناك يأتيه كتاب من النبي صلى الله عليه وسلم يأمره فيه أن يبعث الرجال لمصاولة ذي الخمار. ويحتال المسلمون للنهوض بما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد ذلك يدخل على ذي الخمار رجل ديلمي اسمه فيروز فيقتله على فراشه.
وعلى الرغم من بعد المسافة بين اليمن والمدينة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ليلتها: «قتل الليلة الأسود العنسي».
وبعد ذلك يأتي الخبر في آخر الشهر أن مدعي النبوة قد قتل. وتلك من إعجازات النبوة. إذن فقد تعرض المؤمنون على زمن رسول الله صلى اله عليه وسلم للهزة في العقيدة بحكاية ذي الخمار أو ذي الحمار. وكانت قصة ذي الخمار كالمصل الواقي الذي يربي المناعة، وأخبرهم الله بها أولًا: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.
وذلك ليعطي الحق سبحانه وتعالى المؤمنين مناعة إيمانية وكأنه يقول للمؤمنين: لا تظنوا أنكم لن تتعرضوا إلى هزات عقدية دينية بل ستتعرضون. وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: قد يجوز أن يفهم الناس أني وأنا حي أقوم على منهج الله في الأرض فإذا أنا مت ربما ارتدوا عن الدين.
ورسول الله عندما يبلغ ذلك للمؤمنين عن الله سبحانه إنما كان بقصد تربية المناعة. فلو فوجئ المسلمون بالردة ولم يكن الله قد خبرهم بها لما كان عندهم احتياط مناعي. والاحتياط المناعي هو أول عملية في الوقاية. ونعلم أن العلم المعاصر استطاع فصل الميكروب أو الفيروس المسبب لمرض وبائي، ويقوم العلماء بإضعاف هذا الميكروب أو الفيروس، ثم يوضع قليل من هذا الميكروب أو الفيروس بعد إضعافه في الجسم البشري، فتتحرك في الجسم أجهزة الوقاية والحماية لتقاتل هذا الميكروب أو الفيروس وتنتصر عليه، وبذلك تمتلك قوى الوقاية والحماية داخل الجسم القدرةَ على مقاومة هذا المرض، وهكذا أراد الحق بهذا القول الكريم: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.
إذن فحين يوجد الارتداد، لا يفاجأ المسلمون بهذا الارتداد، ويثقون تمامًا أنه بمجرد مجيئ الارتداد فإن وعد الله الآخر يجيء: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فلا فزع عند المؤمنين ساعة يحدث الارتداد ولا زلزلة في النفوس. وساعة يأتي الارتداد يقول المؤمن:
إن الذي صدق في أنه يحدث الارتداد، سيصدق في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. وإذا رأيت «السين» تسبق قولًا فإن هذا يعني أن الزمن الذي يفصل بين الحدث والحدث قريب وقليل مثل قوله الحق: {سَيَقُولُ السفهاء مِنَ الناس} [البقرة: 142].
أما عندما تقرأ «سوف» فأعلم أن الزمن الذي يفصل بين الحدث والحدث متسع وبعيد. ولذلك نحن نرى أن الردة قد امتدت في عهد أبي بكر رضي الله عنه وفي عهد عمر- رضي الله عنه-.
وما هي ذي مواصفات القوم الذين يأتي بهم الله في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم}؟ إنها مواصفات ست: يحبهم الله، ويحبون الله، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم.
وكيف يكون الإنسان المؤمن ذليلًا وعزيزًا في آن واحد؟ لأن الحق لا يريد أن يطبعنا على لون واحد من الانفعال، ولكنه يريد لنا أن ننفعل تبعًا للموقف. فعندما يحتاج الموقف إلى أن يكون المؤمن عطوفًا فالمؤمن يواجه الموقف بالعاطفة. وعندما يحتاج الموقف إلى الشدة فالمؤمن يواجه الموقف بالشدة. وإن احتاج الموقف إلى الكرم، فالمؤمن يقابل الموقف بالكرم. فالمسلم- إذن- ينفعل انفعالًا مناسبًا لكل موقف، وليس مطبوعا على انفعال واحد. ولو انطبع المؤمن على موقف ذلة دائمة فقد يأتي لمواجهة موقف يتطلب العزة فلا يجدها ولو طُبع المؤمن على عزة دائمة فقد يأتي لمواجهة موقف يتطلب الذلة فلا يجدها؛ لذلك جعل الحق قلب المؤمن لينًا قادرًا على المواجهة كل موقف بما يناسبه.
والمؤمن عزيز أمام عدوه لا يُغلب، ويجابهه بقوة. والمؤمن يخفض جناح الذل من الرحمة لوالديه امتثالًا لأمر الحق سبحانه: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} [الإسراء: 24].
وهل إذا خفض المؤمن جناح الذل لوالديه. أيخدش ذلك عزته؟ لا. بل ذلك أمر يرفع من عزة الإنسان. والحق يريد المؤمن أن يكون غير مطبوع على لون واحد من الانفعال، ولكن لكل موقف انفعاله. وحين ينفعل المؤمن للمواقف المختلفة فهو يميز ما يحتاج إليه كل موقف {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} ويقال في اللغة: «ذليل لفلان» فلماذا- إذًا- يقول الحق هنا: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين}، و«على» تفيد العلو.
والذلة تفيد المكانة المنخفضة، فكيف يأتي هذا التعبير؟ لقد جاء هذا القول على هذا الشكل لحكمة هي: أن المؤمن ما دام يحب الله ويحبه الله. وساعة يكون في ذلة لأخيه المؤمن فهذا يرفع من قدره. وهي ليست ذلة بالمعنى المتعارف عليه، ولكنه لين جانب وعطف ورحمة. إذن فقوله الحق: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} يعني أن المؤمنين يعطفون على غيرهم من المؤمنين حتى يبدو هذا العطف وكأنه ذلة. وبعض العلماء يقول: إن المادة «ذال» و«لام» تدل على معنيين متقابلين، مثال ذلك قوله الحق: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} [يس: 72].
أي جعلناها خاضعة لتصرفهم. وهذا التذليل ليس بقهر من الإنسان للأنعام ولكنه بتسخير من الله. وهي ميسرة لخدمة الإنسان. ومثال آخر. قوله الحق: {فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} [النحل: 69].
أي متطامنة مهيأة. إذن فهذه ذلة اللين. وهناك «ذُل»- بضم الذال- وهو ضد العز. وهناك «ذِل»- بكسر الذال- وهو اللين. إذن فالذل بكسر الذال هو ضد الصعوبة؛ أي اللين. والذُّل- بضم الذال- هو ضد العز-، فإذا اردنا ذلّة اللين؛ فذل المؤمن للمؤمن من الذُّل، وإن أردنا الذلة التي هي ضد العز، فهي من الذُّل. وعندما يكون المؤمن على ذِلة للمؤمن. فهي ذِلة اللين والعطف. وعندما يريد الحق الشيء ليتدانى للمؤمن ولا يتعبه، فهو يقول: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23].
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14].
أي دُلِّيت عناقيدها. فالفاكهة تنزل إلى المكان الذي يوجد فيه المؤمن. وإن وقف المؤمن لطال بيده أن يقطف الثمار. وإن اضطجع لاستطاع أن ينال أيضًا من الثمار لأنها تتدانى له. وإن نام المؤمن لتدانى قطاف الثمار إلى مكانه وبذلك يستطيع أن يأكل منها في أي وقت وعلى أي وضع.
وهنا يأتي الحق بالقول الحكيم: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} أي أن ذلة المؤمن لأخيه المؤمن ترفع منزلته. وبها يكون المؤمن أهلًا لأن ترفع منزلته؛ لأنه مصطفى بأن الله يحبه وأنه يحب الله، ولا توجد رفعة أكثر من هذه رفعة. ولذلك نجد القول المأثور: «من تواضع لله رفعه».
أي من تواضع وفي باله الله فإن الله يرفعه.
{أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} وهذا هو الوصف الثالث للمؤمنين في تلك الآية بعد قوله الحق: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين}.
إن المؤمن عزيز على الكافرين بأنه لا يُغلب، وما دام هو يعرف ذلك فهو ينضم إلى الجهاد في سبيل الله. {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله} وكلمة «الجهاد في سبيل الله» تخصص لونًا من الجهاد، فالإنسان قد يجاهد حمية أو دفاعًا عن جنسيته أو أي انتماء آخر، وكل هذه الانتماءات في عرف الذين لا قيمة لها إلا إذا نبعت من الانتماء إلى منهج الله، لتكون كلمة الله هي العليا.
وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل القتال: فيما جاء عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليُرَى مكانه، فَمَنْ في سبيل الله؟ قال: «مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
وما دام المؤمن محبوبًا من الله ويحب الله وذليلًا على المؤمنين وعزيزا على الكافرين، مادام الأمر كذلك فعندما يتولى مؤمن أمر قيادة غيره من المؤمنين فلا أحد منهم يأنف أن يكون تحت قيادته. وبذلك يخرج المؤمن عن دائرة الاستعلاء والاستكبار؛ لأنه يجاهد في سبيل الله. ولو جاءه إنسان ليلومه على ذلك فهو لا يسمح له، وكأنه سبحانه يوضح: تنبهوا جيدًا إلى أن القوم الذين يحبهم الله ويحبون الله والذين هم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين ويجاهدون في سبيل الله فلا نظن أنهم بمنأى عن سخرية الساخرين، وهزؤ المستهزئين، ولوم اللائمين ليردوهم عن هذه العملية.
ولذلك يقول الحق: {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} وقد وضح ذلك على مر تاريخ الإسلام وجاء الحق بقوم يحبهم ويحبونه وهم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين وجاهدوا في سبيل الله وما خافوا لومة لائم.
وساعة نستقرئ هذه الآية نجد أن «سوف» ابتدأ مدلولها الأول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحين سئل رسول الله عن القوم الذين يحبهم الله ويحبون الله وفيهم هذه الصفات؛ أشار بيده مرة إلى أبي موسى الأشعري، وقال صلى الله عليه وسلم: «هم قوم من هذا».
وعندما نزل قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} [الجمعة: 3].
سأل أبو هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هم يا رسول الله؟. فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجل من هؤلاء».
وقد حدثت الردة الأولى في اليمن، وكانت في قوم أبي موسى الأشعري، وكتب رسول الله إلى معاذ بن جبل- كما أوضحنا- وبعد ذلك تطوع فيروز الديلمي ودخل على من كان يدّعي النبوة ذي الخمار أو ذي الحمار، وقتله. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتها بالأمر. ولكن خبر القتل جاء بعد أن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. وكانت تلك من علامات النبوة.
وحدث- أيضًا- في زمانه صلى الله عليه وسلم أن ادّعى مسيلمة الكذاب أنه نبي. وكتب مسيلمة إلى رسول الله كتابًا، يقول: مِن مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله.
ولم يقدر على نزع صفة النبوة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء في كتاب مسيلمة: «أما بعد. فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك» كأنه قد فهم أن المسألة بالنسبة لرسول الله تحتاج إلى قسمة، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات فيها هبات النبوة: «من محمد رسول لله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين».
ولم يسمع مسيلمة كلام رسول الله، وجهزت الحملة لترسل إليه لتأديبه. وجاء عهد أبي بكر- رضي الله عنه-، وكانت المعركة على أشدها. وجاء «وحشي» الذي قتل حمزة رضي الله عنه في موقعة أحد. وأراد أن يكفر عن سيئاته فذهب وقتل مسيلمة. ولذلك كان يقول كلمته المشهورة: أنا قتلت في الجاهلية خير الناس- يقصد حمزة- وقتلت في الإسلام شر الناس- يقصد مسيلمة- وانتهى أمر مسيلمة.
وجاء إنسان ثالث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه «طليحة بن خويلد» من بني أسد وادّعى النبوة، وكلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن ذهب إليه وكان «خالد بن الوليد» وساعة علم الرجل أن خالدًا هو الذي جاء لقتاله لاذ بالفرار، ولكنه من بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه.
ونلاحظ أننا ننطق «الردة» بكسر الرا، وصفًا لتلك الأمور التي حدثت وقوبلت هذه المقابلة. ولا نسميها «رد» فتح الراء، لأن الرد- بفتح الراء- يكون عودة إلى حق، أما الردة- بكسرة الراء- فتكون إلى باطل، مثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} [النساء: 59].